سورة التوبة - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التوبة)


        


{لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42)}
اعلم أنه تعالى لما بالغ في ترغيبهم في الجهاد في سبيل الله، وكان قد ذكر قوله: {يا أيها الذين ءامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا فِي سَبِيلِ الله اثاقلتم إِلَى الأرض} [التوبة: 38] عاد إلى تقرير كونهم متثاقلين، وبين أن أقواماً، مع كل ما تقدم من الوعيد والحث على الجهاد، تخلفوا في غزوة تبوك، وبين أنه {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ} وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: العرض ما عرض لك من منافع الدنيا، يقال: الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر.
قال الزجاج: فيه محذوف والتقدير: لو كان المدعو إليه سفراً قاصداً، فحذف اسم (كَانَ) لدلالة ما تقدم عليه. وقوله: {وَسَفَرًا قَاصِدًا} قال الزجاج: أي سهلاً قريباً.
وإنما قيل لمثل هذا قاصداً، لأن المتوسط، بين الإفراط، والتفريط، يقال له: مقتصد.
قال تعالى: {فَمِنْهُمْ ظالم لّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ} [فاطر: 32] وتحقيقه أن المتوسط بين الكثرة والقلة يقصده كل أحد، فسمي قاصداً، وتفسير القاصد: ذو قصد، كقولهم لابن وتامر ورابح. قوله: {ولكن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشقة} قال الليث: الشقة بعد مسيره إلى أرض بعيدة يقال: شقة شاقة، والمعنى: بعدت عليهم الشاقة البعيدة، والسبب في هذا الاسم أنه شق على الإنسان سلوكها. ونقل صاحب الكشاف عن عيسى بن عمر: أنه قرأ {بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشقة} بكسر العين والشين.
المسألة الثانية: هذه الآية نزلت في المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، ومعنى الكلام أنه لو كانت المنافع قريبة والسفر قريباً لاتبعوك طمعاً منهم في الفوز بتلك المنافع، ولكن طال السفر فكانوا كالآيسين من الفوز بالغنيمة، بسبب أنهم كانوا يستعظمون غزو الروم، فلهذا السبب تخلفوا. ثم أخبر الله تعالى أنه إذا رجع من الجهاد يجدهم يَحْلِفُونَ بالله لَوِ استطعنا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ إما عندما يعاتبهم بسبب التخلف، وإما ابتداء على طريقة إقامة العذر في التخلف، ثم بين تعالى أنهم يهلكون أنفسهم بسبب ذلك الكذب والنفاق.
وهذا يدل على أن الأيمان الكاذبة توجب الهلاك، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: «اليمين الغموس تدع الديار بلاقع».
ثم قال: {والله يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لكاذبون} في قولهم ما كنا نستطيع الخروج، فإنهم كانوا مستطيعين الخروج.
المسألة الثالثة: دلت الآية على أن قوله: {انفروا خِفَافًا وَثِقَالاً} إنما يتناول من كان قادراً متمكناً، إذ عدم الاستطاعة عذر في التخلف.
المسألة الرابعة: استدل أبو علي الجبائي بهذه الآية على بطلان أن الاستطاعة مع الفعل، فقال: لو كانت الاستطاعة مع الفعل لكان من يخرج إلى القتال لم يكن مستطيعاً إلى القتال، ولو كان الأمر كذلك لكانوا صادقين في قولهم: ما كنا نستطيع ذلك، ولما كذبهم الله تعالى في هذا القول، علمنا أن الاستطاعة قبل الفعل. واستدل الكعبي بهذا الوجه أيضاً له، وسأل نفسه لا يجوز أن يكون المراد به: ما كان لهم زاد ولا راحلة، وما أرادوا به نفس القدرة.
وأجاب: إن كان من لا راحلة له يعذر في ترك الخروج، فمن لا استطاعة له أولى بالعذر. وأيضاً الظاهر من الاستطاعة قوة البدن دون وجود المال، وإذا أريد به المال، فإنما يراد لأنه يعين على ما يفعله الإنسان بقوة البدن، فلا معنى لترك الحقيقة من غير ضرورة.
وأجاب أصحابنا: بأن المعتزلة سلموا أن القدرة على الفعل لا تتقدم على الفعل، إلا بوقت واحد، فأما أن تتقدم عليه بأوقات كثيرة فذلك ممتنع، فإن الإنسان الجالس في المكان لا يكون قادراً في هذا الزمان أن يفعل فعلاً في مكان بعيد عنه، بل إنما يقدر على أن يفعل فعلاً في المكان الملاصق لمكانه فإذا ثبت أن القدرة عند القوم لا تتقدم الفعل إلا بزمان واحد، فالقوم الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كانوا قادرين على أصول المعتزلة، فيلزمهم من هذه الآية ما ألزموه علينا، وعند هذا يجب علينا وعليهم، أن نحمل الاستطاعة على الزاد والراحلة وحينئذ يسقط الاستدلال.
المسألة الخامسة: قالوا الرسول عليه الصلاة والسلام أخبر عنهم أنهم سيحلفون، وهذا إخبار عن غيب يقع في المستقبل، والأمر لما وقع كما أخبر، كان هذا إخباراً عن الغيب، فكان معجزاً، والله أعلم.


{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)}
اعلم أنه تعالى بين بقوله: {لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً لاتبعوك} [التوبة: 42] أنه تخلف قوم من ذلك الغزو، وليس فيه بيان أن ذلك التخلف، كان بإذن الرسول أم لا؟ فلما قال بعده: {عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} دل هذا، على أن فيهم من تخلف بإذنه وفيه مسائل:
المسألة الأولى: احتج بعضهم بهذه الآية على صدور الذنب عن الرسول من وجهين:
الأول: أنه تعالى قال: {عَفَا الله عَنكَ} والعفو يستدعي سابقة الذنب.
والثاني: أنه تعالى قال: {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} وهذا استفهام بمعنى الإنكار، فدل هذا على أن ذلك الإذن كان معصية وذنباً.
قال قتادة وعمرو بن ميمون: اثنان فعلهما الرسول، لم يؤمر بشيء فيهما، إذنه للمنافقين، وأخذه الفداء من الأسارى، فعاتبه الله كما تسمعون.
والجواب عن الأول: لا نسلم أن قوله: {عَفَا الله عَنكَ} يوجب الذنب، ولم لا يجوز أن يقال: إن ذلك يدل على مبالغة الله في تعظيمه وتوقيره، كما يقول الرجل لغيره إذا كان معظماً عنده، عفا الله عنك ما صنعت في أمري ورضي الله عنك، ما جوابك عن كلامي؟ وعافاك الله ما عرفت حقي فلا يكون غرضة من هذا الكلام، إلا مزيد التبجيل والتعظيم.
وقال علي بن الجهم: فيما يخاطب به المتوكل وقد أمر بنفيه:
عفا الله عنك ألا حرمة *** تعود بعفوك إن أبعدا
ألم تر عبداً عدا طوره *** ومولى عفا ورشيداً هدى
أقلني أقالك من لم يزل *** يقيك ويصرف عنك الردى
والجواب عن الثاني أن نقول: لا يجوز أن يقال: المراد بقوله: {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} الإنكار لأنا نقول: إما أن يكون صدر عن الرسول ذنب في هذه الواقعة أو لم يصدر عنه ذنب، فإن قلنا: إنه ما صدر عنه ذنب، امتنع على هذا التقدير أن يكون قوله: {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} إنكار عليه، وإن قلنا: إنه كان قد صدر عنه ذنب، فقوله: {عَفَا الله عَنكَ} يدل على حصول العفو عنه، وبعد حصول العفو عنه يستحيل أن يتوجه الإنكار عليه، فثبت أنه على جميع التقادير يمتنع أن يقال: إن قوله: {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} يدل على كون الرسول مذنباً، وهذا جواب شاف قاطع.
وعند هذا، يحمل قوله: {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} على ترك الأولى والأكمل، لا سيما وهذه الواقعة كانت من جنس ما يتعلق بالحروب ومصالح الدنيا.
المسألة الثانية: من الناس من قال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم، كان يحكم بمقتضى الاجتهاد في بعض الوقائع.
واحتج عليه بأن قوله: {فاعتبروا ياأولى الأبصار} [الحشر: 2] أمر لأولي الأبصار بالاعتبار والاجتهاد، والرسول كان سيداً لهم، فكان داخلاً تحت هذا الأمر، ثم أكدوا ذلك بهذه الآية فقالوا: إما أن يقال إنه تعالى أذن له في ذلك الإذن أو منعه عنه، أو ما أذن له فيه وما منعه عنه والأول باطل، وإلا امتنع أن يقول له لم أذنت لهم.
والثاني باطل أيضاً، لأن على هذا التقدير يلزم أن يقال إنه حكم بغير ما أنزل الله فيلزم دخوله تحت قوله: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكافرون} [المائدة: 44] {فأولئك هُمُ الظالمون} [المائدة: 45] {فأولئك هُمُ الفاسقون} [المائدة: 47] وذلك باطل بصريح القول فلم يبق إلا القسم الثالث، وهو أنه عليه الصلاة والسلام أذن في تلك الواقعة من تلقاء نفسه، فإما أن يكون ذلك مبنياً على الاجتهاد أو ما كان كذلك، والثاني باطل، لأنه حكم بمجرد التشهي وهو باطل لقوله تعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصلاة واتبعوا الشهوات} [مريم: 59] فلم يبق إلا أنه عليه الصلاة والسلام أذن في تلك الواقعة، بناء على الاجتهاد، وذلك يدل على أنه عليه الصلاة والسلام، كان يحكم بمقتضى الاجتهاد.
فإن قيل: فهذا بأن يدل على أنه لا يجوز له الحكم بالاجتهاد أولى، لأنه تعالى منعه من هذا الحكم بقوله: {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ}.
قلنا: إنه تعالى ما منعه من ذلك الإذن مطلقاً لأنه قال: {حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ الذين صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الكاذبين} والحكم الممدود إلى غاية بكلمة حتى يجب انتهاؤه عند حصول تلك الغاية، فهذا يدل على صحة قولنا.
فإن قالوا: فلم لا يجوز أن يكون المراد من ذلك التبين هو التبين بطريق الوحي؟
قلنا: ما ذكرتموه محتمل إلا أن على التقدير الذي ذكرتم، يصير تكليفه، أن لا يحكم ألبتة، وأن يصبر حتى ينزل الوحي ويظهر النص، فلما ترك ذلك، كان ذلك كبيرة، وعلى التقدير الذي ذكرنا كان ذلك الخطأ خطأ واقعاً في الاجتهاد، فدخل تحت قوله: ومن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد فكان حمل الكلام عليه أولى.
المسألة الثالثة: دلت هذه الآية على وجوب الاحتراز عن العجلة، ووجوب التثبت والتأني وترك الاغترار بظواهر الأمور والمبالغة في التفحص، حتى يمكنه أن يعامل كل فريق بما يستحقه من التقريب أو الإبعاد.
المسألة الرابعة: قال قتادة: عاتبه الله كما تسمعون في هذه الآية، ثم رخص له في سورة النور فقال: {فَإِذَا استذنوك لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ} [النور: 62].
المسألة الخامسة: قال أبو مسلم الأصفهاني: قوله: {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} ليس فيه ما يدل على أن ذلك الإذن فيما ذا؟! فيحتمل أن بعضهم استأذن في القعود فأذن له، ويحتمل أن بعضهم استأذن في الخروج فأذن له، مع أنه ما كان خروجهم معه صواباً، لأجل أنهم كانوا عيوناً للمنافقين على المسلمين، فكانوا يثيرون الفتن ويبغون الغوائل فلهذا السبب، ما كان في خروجهم مع الرسول مصلحة.
قال القاضي: هذا بعيد لأن هذه الآية نزلت في غزوة تبوك على وجه الذم للمتخلفين والمدح للمبادرين، وأيضاً ما بعد هذه الآية يدل على ذم القاعدين وبيان حالهم.


{لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46)}
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال ابن عباس: قوله: {لاَ يَسْتَأْذِنُكَ} أي بعد غزوة تبوك، وقال الباقون: هذا لا يجوز، لأن ما قبل هذه الآية وما بعدها وردت في قصة تبوك، والمقصود من هذا الكلام تمييز المؤمنين عن المنافقين، فإن المؤمنين متى أمروا بالخروج إلى الجهاد تبادروا إليه ولم يتوقفوا، والمنافقون يتوقفون ويتبلدون ويأتون بالعلل والأعذار.
وهذا المقصود حاصل سواء عبر عنه بلفظ المستقبل أو الماضي، والمقصود أنه تعالى جعل علامة النفاق في ذلك لوقت الاستئذان، والله أعلم.
المسألة الثانية: قوله: {لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الذين يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الأخر أَن يجاهدوا} فيه محذوف، والتقدير: في أن يجاهدوا. إلا أنه حسن الحذف لظهوره، ثم هاهنا قولان:
القول الأول: إجراء هذا الكلام على ظاهره من غير إضمار آخر، وعلى هذا التقدير فالمعنى أنه ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوك في أن يجاهدوا، وكان الأكابر من المهاجرين والأنصار يقولون لا نستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد، فإن ربنا ندبنا إليه مرة بعد أخرى، فأي فائدة في الاستئذان؟ وكانوا بحيث لو أمرهم الرسول بالقعود لشق عليهم ذلك، ألا ترى أن علي بن أبي طالب لما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يبقى في المدينة شق عليه ذلك ولم يرض إلى أن قال له الرسول: أنت مني بمنزلة هرون من موسى.
القول الثاني: أنه لابد هاهنا من إضمار آخر، قالوا لأن ترك استئذان الإمام في الجهاد غير جائز، وهؤلاء ذمهم الله في ترك هذا الاستئذان، فثبت أنه لابد من الإضمار، والتقدير: لا يستأذنك هؤلاء في أن لا يجاهدوا، إلا أنه حذف حرف النفي، ونظير قوله: {يُبَيّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ} [النساء: 176] والذي دل على هذا المحذوف أن ما قبل الآية وما بعدها يدل على أن حصول هذا الذم إنما كان على الاستئذان في القعود، والله أعلم.
ثم قال تعالى: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الأخر وارتابت قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: بين أن هذا الانتقال لا يصدر إلا عند عدم الإيمان بالله واليوم الآخر ثم لما كان عدم الإيمان قد يكون بسبب الشك فيه، وقد يكون بسبب الجزم والقطع بعدمه، بين تعالى أن عدم إيمان هؤلاء إنما كان بسبب الشك والريب، وهذا يدل على أن الشاك المرتاب غير مؤمن بالله.
وهاهنا سؤالان:
السؤال الأول: أن العلم إذا كان استدلالياً كان وقوع الشك في الدليل يوجب وقوع الشك في المدلول، ووقع الشك في مقدمة واحدة من مقدمات الدليل يكفي في حصول الشك في صحة الدليل، فهذا يقتضي أن الرجل المؤمن إذا وقع له سؤال وإشكال في مقدمة من مقدمات دليله أن يصير شاكاً في المدلول، وهذا يقتضي أن يخرج المؤمن عن إيمانه في كل لحظة، بسبب أنه خطر بباله سؤال وإشكال، ومعلوم أن ذلك باطل، فثبت أن بناء الإيمان ليس على الدليل بل على التقليد. فصارت هذه الآية دالة على أن الأصل في الإيمان هو التقليد من هذا الوجه.
والجواب: أن المسلم وإن عرض له الشك في صحة بعض مقدمات دليل واحد إلا أن سائر الدلائل سليمة عنده من الطعن، فلهذا السبب بقي إيمانه دائماً مستمراً.
السؤال الثاني: أليس أن أصحابكم يقولون: أنا مؤمن إن شاء الله تعالى، وذلك يقتضي حصول الشك؟
والجواب: أنا استقصينا في تحقيق هذه المسألة في سورة الأنفال، في تفسير قوله: {أُوْلئِكَ هُمُ المؤمنون حَقّاً} [الأنفال: 74].
المسألة الثانية: قالت الكرامية: الإيمان هو مجرد الإقرار مع أنه تعالى شهد عليهم في هذه الآية بأنهم ليسوا مؤمنين.
المسألة الثالثة: قوله: {وارتابت قُلُوبُهُمْ} يدل على أن محل الريب هو القلب فقط، ومتى كان محل الريب هو القلب كان محل المعرفة، والإيمان أيضاً هو القلب، لأن محل أحد الضدين يجب أن يكون هو محلاً للضد الآخر، ولهذا السبب قال تعالى: {أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان} [المجادلة: 22] وإذا كان محل المعرفة والكفر القلب، كان المثاب والمعاقب في الحقيقة هو القلب والبواقي تكون تبعاً له.
المسألة الرابعة: قوله: {فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} معناه أن الشاك المرتاب يبقى متردداً بين النفي والإثبات، غير حاكم بأحد القسمين ولا جازم بأحد النقيضين. وتقريره: أن الاعتقاد إما أن يكون جازماً أو لا يكون، فالجازم إن كان غير مطابق فهو الجهل وإن كان مطابقاً، فإن كان غير يقين فهو العلم، وإلا فهو اعتقاد المقلد. وإن كان غير جازم، فإن كان أحد الطرفين راجحاً فالراجح هو الظن والمرجوح هو الوهم. وإن اعتدل الطرفان فهو الريب والشك، وحينئذ يبقى الإنسان متردداً بين الطرفين.
ثم قال تعالى: {وَلَوْ أَرَادُواْ الخروج لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً} قرئ {عدته} وقرئ أيضاً {عِدَّةَ} بكسر العين بغير إضافة وبإضافة، قال ابن عباس: يريد من الزاد والماء والراحلة، لأن سفرهم بعيد وفي زمان شديد، وتركهم العدة دليل على أنهم أرادوا التخلف.
وقال آخرون: هذا إشارة إلى أنهم كانوا مياسير قادرين على تحصيل الأهبة والعدة.
ثم قال تعالى: {ولكن كَرِهَ الله انبعاثهم فَثَبَّطَهُمْ} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: الانبعاث: الانطلاق في الأمر، يقال بعثت البعير فانبعث وبعثته لأمر كذا فانبعث، وبعثه لأمر كذا أي نفذه فيه، والتثبيط رد الإنسان على الفعل الذي هم به، والمعنى: أنه تعالى كره خروجهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم فصرفهم عنه.
فإن قيل: إن خروجهم مع الرسول إما أن يقال إنه كان مفسدة وإما أن يقال إنه كان مصلحة.
فإن قلنا: إنه كان مفسدة، فلم عاتب الرسول في إذنه إياهم في القعود؟ وإن قلنا: إنه كان مصلحة، فلم قال إنه تعالى كره انبعاثهم وخروجهم؟
والجواب الصحيح: أن خروجهم مع الرسول ما كان مصلحة، بدليل أنه تعالى صرح بعد هذه الآية وشرح تلك المفاسد وهو قوله: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً} [التوبة: 47] بقي أن يقال فلما كان الأصوب الأصلح أن لا يخرجوا، فلم عاتب الرسول في الإذن؟ فنقول: قد حكينا عن أبي مسلم أنه قال: ليس في قوله: {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] أنه عليه الصلاة والسلام كان قد أذن لهم في القعود، بل يحتمل أن يقال إنهم استأذنوه في الخروج معه فأذن لهم، وعلى هذا التقدير فإنه يسقط السؤال، قال أبو مسلم والدليل على صحة ما قلنا إن هذه الآية دلت على أن خروجهم معه كان مفسدة، فوجب حمل ذلك العتاب على أنه عليه الصلاة والسلام أذن لهم في الخروج معه، وتأكد ذلك بسائر الآيات، منها قوله تعالى: {فَإِن رَّجَعَكَ الله إلى طَائِفَةٍ مّنْهُمْ فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِىَ أَبَدًا} [التوبة: 83] ومنها قوله تعالى: {سَيَقُولُ المخلفون إِذَا انطلقتم} [الفتح: 15] إلى قوله: {قُل لَّن تَتَّبِعُونَا} [الفتح: 15] فهذا دفع هذا السؤال على طريقة أبي مسلم.
والوجه الثاني: من الجواب أن نسلم أن العتاب في قوله: {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} إنما توجه لأنه عليه الصلاة والسلام أذن لهم في القعود، فنقول: ذلك العتاب ما كان لأجل أن ذلك القعود كان مفسدة، بل لأجل أن إذنه عليه الصلاة والسلام بذلك القعود كان مفسدة وبيانه من وجوه:
الأول: أنه عليه الصلاة والسلام أذن قبل إتمام التفحص وإكمال التأمل والتدبر، ولهذا السبب قال تعالى: {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ الذين صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الكاذبين} والثاني: أن بتقدير أنه عليه الصلاة والسلام ما كان يأذن لهم في القعود؛ فهم كانوا يقعدون من تلقاء أنفسهم، وكان يصير ذلك القعود علامة على نفاقهم، وإذا ظهر نفاقهم احترز المسلمون منهم ولم يغتروا بقولهم، فلما أذن الرسول في القعود بقي نفاقهم مخفياً وفاتت تلك المصالح.
والثالث: أنهم لما استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب عليهم وقال: {اقعدوا مَعَ القاعدين} على سبيل الزجر كما حكاه الله في آخر هذه الآية وهو قوله: {وَقِيلَ اقعدوا مَعَ القاعدين} ثم إنهم اغتنموا هذه اللفظة وقالوا: قد أذن لنا فقال تعالى: {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} أي لم ذكرت عندهم هذا اللفظ الذي أمكنهم أن يتوسلوا به إلى تحصيل غرضهم؟ الرابع: أن الذين يقولون الاجتهاد غير جائز على الأنبياء عليهم السلام قالوا: إنه إنما أذن بمقتضى الاجتهاد، وذلك غير جائز، لأنهم لما تمكنوا من الوحي وكان الإقدام على الاجتهاد مع التمكن من الوحي جارياً مجرى الإقدام على الاجتهاد مع حصول النص، فكما أن هذا غير جائز فكذا ذاك.
المسألة الثانية: قالت المعتزلة البصرية: الآية دالة على أنه تعالى كما هو موصوف بصفة المريدية هو موصوف بصفة الكارهية، بدليل قوله تعالى: {ولكن كَرِهَ الله انبعاثهم} قال أصحابنا: معنى {كَرِهَ الله} أراد عدم ذلك الشيء.
قال البصرية: العدم لا يصلح أن يكون متعلقاً، وذلك لأن الإرادة عبارة عن صفة تقتضي ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر، والعدم نفي محض، وأيضاً فالعدم المستمر لا تعلق للإرادة بالعدم به، لأن تحصيل الحاصل محال، وجعل العدم عدماً محال، فثبت أن تعلق الإرادة بالعدم محال، فامتنع القول بأن المراد من الكراهة إرادة العدم.
أجاب أصحابنا: بأنا نفسر الكراهة في حق الله بإرادة ضد ذلك الشيء، فهو تعالى أراد منهم السكون، فوقع التعبير عن هذه الإرادة بكونه تعالى كارهاً لخروجهم مع الرسول.
المسألة الثالثة: احتج أصحابنا في مسألة القضاء والقدر بقوله تعالى: {فَثَبَّطَهُمْ} أي فكسلهم وضعف رغبتهم في الانبعاث، وحاصل الكلام فيه لا يتم إلا إذا صرحنا بالحق، وهو أن صدور الفعل يتوقف على حصول الداعي إليه، فإذا صارت الداعية فاترة مرجوحة امتنع صدور الفعل عنه، ثم إن صيرورة تلك الداعية جازمة أو فاترة، إن كانت من العبد لزم التسلسل، وإن كانت من الله؛ فحينئذ لزم المقصود. لأن تقوية الداعية ليست إلا من الله، ومتى حصلت تلك التقوية لزم حصول الفعل، وحينئذ يصح قولنا في مسألة القضاء والقدر. ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله: {وَقِيلَ اقعدوا مَعَ القاعدين} وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: المقصود منه التنبيه على ذمهم وإلحاقهم بالنساء والصبيان والعاجزين الذين شأنهم القعود في البيوت، وهم القاعدون والخالفون والخوالف على ما ذكره في قوله: {رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف} [التوبة: 87، 93].
المسألة الثانية: اختلفوا في أن هذا القول ممن كان؟ فيحتمل أن يكون القائل بذلك هو الشيطان على سبيل الوسوسة، ويحتمل أن يكون بعضهم قال ذلك لبعض لما أرادوا الاجتماع على التخلف، لأن من يتولى الفساد يحب التكثر بأشكاله، ويحتمل أن يكون القائل هو الرسول صلى الله عليه وسلم لما أذن لهم في التخلف فعاتبه الله، ويحتمل أن يكون القائل هو الله سبحانه لأنه قد كره خروجهم للإفساد، وكان المراد إذا كنتم مفسدين فقد كره الله انبعاثكم على هذا الوجه فأمركم بالقعود عن هذا الخروج المخصوص.

7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14